بقلم: امل الروبي
إنها أمريكا قبلة المهاجرين من كل أنحاء العالم، تستقبل ما يزيد عن الخمسين ألفاً من الفائزين في قرعة الهجرة الأمريكية (اللوتري) كل عام، من بينهم قرابة الأربعة ألف فائزٍ من مصر والتي تشارك بنحو مليون متقدمٍ تقريباً، وقد كان محمد واحداً من هؤلاء وقرر له أن يدخل أمريكا في يناير عام 2021 فوقع اختياره على نيويورك مهبط المهاجرين من كل مكان، ولكن في أحد أصعب شهور الشتاء، فهو يناير المثلج القارس بلسعة برده التي تتخلل العظام، أنهى محمد اجراءات المطار وخرج إلى الهواء الطلق أخيرا.
وقف محمد الشاب القمحي ذو الخامسة والثلاثين ربيعاً وهو يرتعد برداً رغم كل ما كسى به جسده من ملابسٍ صوفية ثقيلة، فشتاء الاسكندرية الذي لطالما عشقه واعتاده لم يكن ليجدى له نفعاً أمام هذا الفضاء الشاحب الذي تتجمد فيه أي نقطة ماءٍ في زجاجةٍ ملقاةٍ هنا أوهناك، إنها زرقةُ الأظافرِ وزفراتُ الأنفاس ذات الدخان الأبيض، لكن هذا البرد الذي تخلل عروق يديه في ثوانٍ وكأنه يصارع الدم الذي يجري فيها لم يكن في الحقيقة السبب الأوحد وراء تلك الوحشةِ الخانقةِ ولا تلك الدمعة الحزينة المتألقة بين محاجر عينيه...
"بكرة يشوف اللي هيجرى له... ويببقى يقابلني لولاقى حد يسأل فيه ولا يشغله من أساسه!"
انسابت الدمعة الدافئة على ذلك الوجه المقشعر من البرد فمسحها وهو يحاول اسكات خواطره وعبراته المتدفقة حتى لمح أخيراً سائق سيارة أجرةٍ فأشار له فقدم فاستقل محمد السيارة وحمل حقائبه إليها وبدأ يتأمل تلك المساحات الخضراء الشاسعة حول الطريق محاولاً استنشاق قدر ما استطاع من الأمل لعله ينسى جراح الماضي الغائرة.
إلى مكانٍ موحشٍ ذو رائحةٍ غريبة توقفت السيارة عن السير وأشار السائق الأسباني لمحمد لينزل، فألقى محمد نظرةً على المكان في عجب لا يخلو من الخيفة...
"بقى البلد والطبيعة والجمال ده كله وفي الآخر يطلع السكن في المكان ده... يا ترى اللي هنا عايشين إزاي؟!"
- هيا يا صاحبي... ألم تقل أنك ستدفع نقدياً؟"
تردد صوت السائق فأسرع محمد بالرد:
- نعم بالفعل... ثوان من فضلك.
حاسب محمد السائق وانطلق بحقيبته يدق الباب فخرج له السيد جون الأربعيني الأشقر فتبادلا السلام وبدءا الحديث عن الدفع مقدماً:
- نعم لا داعي للقلق يا سيد جون فسأقاسمك الأجرة وخلال بضع أيامٍ سادفع لك ما تبقى من أجرة الشهر... هل يمكنني الدخول إلى الغرفة الآن فأنا متعبٌ جدا من طول الرحلة.
- تفضل على الرحب والسعة.
في تلك الشقة الصغيرة التي تشبه الصناديق الخشبية أكثر منها شبهاً بالشقق السكنية مشى محمد إلى الداخل وقد لمح زجاجة الخمر على المائدة الصغيرة وأريكة وكرسياً بالكاد يتسعان لثلاثة أشخاص حتى دخل إلى غرفة النوم أخيراً فكل ما كان يطمح إليه في تلك اللحظة غفوة نوم تريح جسده المنهك، وما لبث أن أغلق الباب وتهاوى على السرير كالمغشي عليه حتى بدأ يشتم نفس تلك الرائحة الكريهة الغريبة ولكنه لم يتبين مصدرها، فقط راح يحاول إغماضَ عينيه حتى سمع دبيب أرجل الجيران القاطنين بالأعلى وكأن السقف يكاد يهوي بهم عليه فاستفاق ثم عاد يغمضُ عينيه في صمتٍ فسمع هوهوة كلبٍ كبير فارتعد في مكانه حتى صمت الكلب فعاد يحاول النوم مجدداً فسمع تحفير اًغريباً في ركنٍ من أركان غرفته فاقترب منه خائفاً ثم راح يسأل السيد جون عن بعدٍ فخرج جون إليه من غرفته ونظر إلى الركن بالأسفل ثم إلى محمد وقال ببرود:
- لا تخف إنه مجرد فأر.
- فأر!
رددها محمد شاخص العينين محدقاً فأكمل الرجل يقول:
- لا تقلق فهو ليس بجرذٍ كبير، ًستتعود عليهم وعلى أُّصواتهم مع الوقت، إنهم كائناتٌ لطيفة.
ابتلع محمد ريقه وهو يومضُ عينيه رعباً فأكمل الرجل بابتسامة باردة:
- أهلاً بك في بروكلن!
ومضى فزفر محمد ودسَّ وسادةً أخرى فوق رأسه ليغُطَّ في النوم أخيرا.

